قيادة التغيير: كيف تساهم الاستشارات في تحقيق أهداف الاستدامة

لم يمضِ على ظهور مفهوم الأعمال المستدامة سوى عقدين من الزمن؛ إذ قدمه للعالم رواد أمثال "هنتر لوفينز" (Hunter Lovins)، و "أموري لوفينز" (Amory Lovins)، و "بول هوكن" (Paul Hawken) من خلال مؤلفات بارزة مثل كتاب "رأس المال الطبيعي" (Natural Capitalism). ترسخت منذ ذلك الحين فكرة أساسية مفادها أنَّ معالجة المشكلات البيئية والاجتماعية من خلال إعادة تصميم ذكية، وغالباً ما تكون جذرية، يمكن أن تشكل محوراً أساسياً لاستراتيجية عمل مربحة، وأصبحت هذه الفكرة جزءاً لا يتجزأ من الفكر المؤسسي السائد.

نشهد يوماً بعد يوم تزايد تبني الشركات لممارسات أكثر استدامة. قد حظي "الغرض" الاجتماعي والبيئي في الآونة الأخيرة بتأييد واسع من قبل عديد من الرؤساء التنفيذيين، بمن فيهم المدير التنفيذي لشركة "بلاك روك" (BlackRock) "لاري فينك" (Larry Fink) باعتباره عنصراً حاسماً لنجاح الأعمال.

في ضوء هذا التوجه المؤسسي الحديث العهد، ثمة تساؤلات عن كيفية تمكين المديرين من "الإدارة الهادفة" وتضمين مبادئ الاستدامة في صميم استراتيجياتهم المؤسسية. يمثل هذا الأمر تحدياً حقيقياً، خاصة وأنَّ غالبية القادة حصلوا على تعليمهم من برامج تقليدية تركز على جانب واحد فقط من الأداء المالي وهو الربح، وزيادة سعر أسهم الشركة في السوق.

اقترحت الإدارة تشكيل فِرَق تضم خبراء في مجال الاستدامة رداً على متطلبات الرؤساء التنفيذيين في الشركات الكبرى. يُناط بهؤلاء الأفراد مسؤولية تحديد الفرص المربحة في مجال الاستدامة واستثمارها، بالإضافة إلى نشر ثقافة التفكير المستدام في جميع أرجاء المؤسسة.

يحتاج هؤلاء المتخصصون غالباً إلى الدعم في تطبيق أفضل الممارسات، مما يدفعهم إلى الاستعانة بمستشارين متخصصين في الاستدامة، كما تتعاون الشركات التي لا تزال تفتقر إلى كوادر متخصصة مع هؤلاء المستشارين للشروع في دمج التركيز على الرسالة البيئية أو الاجتماعية في صميم أعمالها.

ربما تتساءل عن سُبل احتراف مهنة استشارات الاستدامة في هذا السياق المتنامي من الفرص، لذلك يناقش هذا المقال هذا الموضوع بتفصيل أعمق.

الدور الوظيفي لمستشار الاستدامة

تتشابه استشارات الاستدامة إلى حد كبير مع الممارسة العامة للاستشارات الإدارية من الناحية التنفيذية، ويعمل بعض مستشاري الاستدامة ضمن شركات استشارية تقليدية ويطبقون منظور الاستدامة على مشاريعهم. بينما يعمل آخرون في شركات متخصصة على نحوٍ صريح في تقديم الاستشارات في هذا المجال. حتى في هذه الحالة، يعتمد العمل اليومي اعتماداً كبيراً على الأدوات والمنهجيات القياسية التي يستخدمها المستشارون الإداريون في مجالات أخرى.

تركز استشارات الاستدامة، بمفهومها الكلاسيكي، على الحد من الأثر البيئي، بما في ذلك انبعاثات الكربون، واستهلاك المياه العذبة، والتلوث بالمواد السامة. تركز استشارات الاستدامة على تحديث العمليات التشغيلية ضمن الشركة بهدف تخفيض كل من الهدر والتكاليف.

يتزايد الإدراك بأنَّ تحقيق ميزة تنافسية مستدامة يمكن أن ينبع من جميع جوانب العمل مع تطور الفكر المتعلق بالاستدامة، وذلك من خلال تحفيز الابتكار، وتعزيز مشاركة الموظفين وإنتاجيتهم، وإرساء ضوابط محاسبة أفضل، وتخفيض تكلفة التمويل، واكتساب ولاء العملاء والحفاظ عليه، وتقليل مخاطر سلسلة التوريد، والحد من التعرض للمساءلة القانونية. يطلق "لوفينز" على هذه المزايا المتنوعة لتطبيق الاستدامة مصطلح "المحصلة النهائية المتكاملة".

لمحة عن يوم عمل مستشار الاستدامة

بالحديث مع 3 خريجين حديثين من برنامج ماجستير إدارة الأعمال في كلية "بارد" (Bard) في نيويورك، والذين يعملون حالياً في مجال الاستشارات، تم الكشف عن مزيد من التفاصيل حول طبيعة عملهم. تشغل "روشيل مارش" (Rochelle March) منصب محلل أول في شركة "تروكوست / إس آند بي" (Trucost / S&P). بينما تعمل "ماريانا سوزا" (Marianna Souza) كزميل أول في شركة "كي بي إم جي" (KPMG)، وتتركز خبرتها في قضايا قطاع المرافق.

أما "جاريد جرين" (Jarrid Green) فقد عمل لعدة سنوات في مبادرة الديمقراطية التعاونية، وانتقل مؤخراً إلى شركة استشارية مقرها واشنطن العاصمة ومتخصصة في دعم المنظمات غير الحكومية الكبيرة والمؤسسات الخيرية.

توضح "مارش" أنَّها "قامت مؤخراً بتقييم الأثر البيئي لشركة تعمل في مجال تصنيع الأثاث وترجمت ذلك إلى قِيَم مالية لتسهيل المقارنة المتكافئة بين مختلف التأثيرات البيئية. قد تُوج ذلك بإعداد بيان نهائي للأرباح والخسائر البيئية، مما ساعد الشركة على فهم كامل تأثيرها البيئي، من خلال سلسلة القيمة الخاصة بها. يدعم هذا بدوره جهودهم في تنفيذ مبادرات تهدف إلى تقليل هذا التأثير وقياس التقدم المُحرَز مع مرور الزمن".

أما مشروع "سوزا" الحالي، فلا يركز تركيزاً مباشراً على الاستدامة، إلا أنَّه يتناول إدارة التغيير على نطاق واسع. تقول: "المشكلة التي أسعى حالياً لحلها هي كيفية إيصال حالة تنفيذ منصة خدمة العملاء والفواتير التي تبلغ قيمتها 400 مليون دولار إلى القيادات التنفيذية بطريقة موجزة وواضحة وتلهم الثقة في فريق إدارة البرنامج".

ويشير "جرين" إلى أنَّه " يتمثل أحد مشاريعي في مساعدة مجموعة من كبار الممولين على تقييم مدى نجاح برامجهم الخاصة بتقديم المنح في مجال العدالة الجنائية، وذلك بهدف تطوير رؤية مشتركة وخطة عمل للسنوات القادمة".

مستشار الاستدامة

منهج "بارد" في تدريس استشارات الاستدامة

يتجاوز السعي للحصول على درجة ماجستير إدارة الأعمال في الاستدامة من "بارد" مجرد الحصول على شهادة في إدارة الأعمال. ينخرط طلاب السنة الأولى في كل خريف في برنامج ماجستير إدارة الأعمال في الاستدامة في "معسكر تدريبي مكثف لاستشارات الاستدامة". تُعَد الدورة التي تمتد لفصلين دراسيين برنامجاً فريداً على مستوى العالم؛ إذ يعمل الطلاب في فِرَق صغيرة على إيجاد حلول لتحديات الاستدامة التي تواجه شركات حقيقية.

وقد شملت قائمة العملاء شركات كبرى مثل "جيت بلو" (Jet Blue)، و"كليف بار" (Clif Bar)، و"سيمنز" (Siemens)، و"ناسداك" (Nasdaq)، و"كون إديسون" (Con Edison)، و"يو بي إس" (UBS)، و"يونيليفر" (Unilever)، بالإضافة إلى شركات ناشئة ومنظمات غير ربحية كبيرة. تتنوع المشاريع لتشمل مجالات العمليات، والتمويل، والتسويق، واندماج الموظفين.

"لورا جيتمان" (Laura Gitman) هي المحاضِرة والمشرفة على المشاريع ضمن هذه الدورة، وهي رئيسة قسم العمليات في أكبر وأقدم شركة استشارات في مجال الاستدامة في العالم "بي إس آر" (BSR). لقد كانت مستويات رضا العملاء ممتازة منذ انطلاقة البرنامج على الرغم من الخبرة الاستشارية المحدودة التي يمتلكها الطلاب في البداية.

توضح "جيتمان" أنَّ "يتعلم الطلاب إجراءات الاستشارات في مشروع عملي، بدءاً من تحديد نطاق المشروع وإجراء الأبحاث وصولاً إلى تقديم التوصيات النهائية للعميل شخصياً. يغطون الجوانب الأساسية جميعها بعد مشروع يمتد لمدة 9 أشهر".

تكمن النقطة الجوهرية هنا في أنَّه لا يوجد سر أو تعقيد في مجال استشارات الاستدامة؛ إذ يمكن لطلاب ماجستير إدارة الأعمال في السنة الأولى أن يقدموا قيمة مضافة حقيقية للشركات من خلال التوجيه القوي، على أن يمتلكوا مهارات أساسية وفهماً لمبادئ الاستدامة، بالإضافة إلى شغفهم بحل المشكلات البيئية والاجتماعية المعقدة.

سجل "بارد" في مجال استشارات الاستدامة

يعمل عدد من خريجي برنامج ماجستير إدارة الأعمال في مجال الاستشارات الإدارية، مع تركيز خاص على الجوانب الاجتماعية أو البيئية. تشمل مساراتهم المهنية المتنوعة العمل في فرق الابتكار الصناعي، والاستشارات في مجال تشييد أبنية سكنية صديقة للبيئة، وإطلاق مشاريع خاصة تهدف إلى تنفيذ استراتيجيات الاقتصاد الدائري، بالإضافة إلى شغل وظائف استشارية في مجال الاستدامة. يؤدي هؤلاء المهنيون دور فعال في مساعدة المؤسسات والشركات على دمج مبادئ الاستدامة في أنشطتها، مع تقديم حلول مبتكرة لقضايا بيئية واجتماعية معقدة.

يعمل جزء كبير من خريجي بارد في مجال استشارات الاستدامة، ويُعزى ذلك – جزئياً – إلى التركيز الفريد للبرنامج على مفهوم المحصلة النهائية المتكاملة. يدرس طلاب "بارد" عن الجدوى الاقتصادية للاستدامة في جميع المقررات، بدءاً من الاقتصاد وريادة الأعمال، ووصولاً إلى العمليات والتسويق، ويبتكرون طرائق متنوعة تحقق النجاح التجاري وتساعد في إيجاد حلول للمشكلات البيئية والاجتماعية.

اكتساب الخبرة في مجال الاستشارات البيئية المستدامة

يوفر برنامج ماجستير إدارة الأعمال في "بارد" عديداً من النشاطات وفرصاً للممارسة العملية للطلاب في مجال الاستشارات بالإضافة إلى أهمية المقررات الدراسية. تُعد الخبرات العملية ضروريةً لتطبيق المهارات المكتسبة في الدورات، واكتساب الخبرة، وبناء السيرة الذاتية للطلاب. تشمل هذه النشاطات:

1. مختبر نيويورك (NYCLab)

لا يوجد برنامج ماجستير إدارة أعمال آخر على مستوى العالم يقدم دورة تدريبية لمدة عام كامل في مجال استشارات الاستدامة. يخوض جميع طلاب "بارد" هذه التجربة في سنتهم الأولى، وهي تتيح لهم فرصة مزاولة مهنة الاستشارات وتطبيق المهارات والأدوات، مما يؤهلهم لاكتساب مزيد من الخبرة في سنوات برنامجهم النهائية.

2. مشروع التخرج الاستشاري (Consulting Capstone)

يكمل جميع طلاب "بارد" مشروع تخرج يمتد لفصلين دراسيين، ويتم الإشراف عليه فردياً. يستثمر الطلاب الذين يركزون على الاستشارات هذه الفرصة لاكتساب خبرة واقعية إضافية.

3. برنامج صندوق الدفاع عن البيئة لرواد المناخ (EDF Climate Corps)

يفوز عدد من طلاب ماجستير إدارة الأعمال في "بارد" بزمالات برنامج صندوق الدفاع عن البيئة لرواد المناخ بين مختبر نيويورك في السنة الأولى ومشروع التخرج في السنة الثانية. تشمل هذه الفرصة الاستشارية المرموقة في مجال الاستدامة معسكر تدريبي لمدة أسبوع وتضع الطلاب في وظائف صيفية مع شركات مثل "دانكن دونتس" (Dunkin Donuts)، أو منظمات غير ربحية كبيرة مثل مركز "ريفرسايد" المجتمعي في نيويورك (NYC's Riverside Community Center).

4. مسابقات دراسة الحالة (Case Competitions)

يتنافس طلاب "بارد" في مسابقات دراسة حالة وطنية ويفوزون بها، وهي تُعَد فرصاً ممتازة لتناول أسئلة استشارية استراتيجية صعبة. على سبيل المثال، استجاب فريق "بارد" قبل بضع سنوات لتحدي "باتاغونيا" (Patagonia): كيف يمكن للشركة أن تصبح محايدة للكربون بحلول عام 2025؟ وقد حصل "بارد" على المركز الثاني، ونُقل الفريق إلى مقر الشركة في "فينتورا" (Ventura) لتبادل أفكارهم مع الإدارة العليا.

يوفر موقع "بارد" في مدينة نيويورك، التي تضم عديداً من شركات استشارات الاستدامة، ميزةً إضافيةً. إنَّ معظم أعضاء هيئة التدريس في "بارد" هم أنفسهم ممارسون في مجال الاستدامة، ويمتلك عديد منهم شركات استشارية خاصة بهم.

يتلقى الطلاب محاضرات إضافية من ضيوف خارجيين واستشاريين متخصصين باستمرار؛ لذا، يكتسب عديد من الطلاب خبرة إضافية من خلال العمل مع أعضاء هيئة التدريس في برنامج ماجستير إدارة الأعمال في مشاريعهم الخاصة.

 مجال الاستشارات البيئية المستدامة

نصائح للحصول على وظائف في مجال استشارات الاستدامة

تتضمن أهم المهارات التي يبحث عنها أصحاب العمل التالي:

  • الثقة، والفضول، والتفكير المنظم. يجب أن يكون المتقدم قادراً على التعامل مع العملاء منذ اليوم الأول، وطرح الأسئلة البناءة، ودعم الفريق بكفاءة.
  • تُعَد القدرة على إدارة مشاريع متعددة أساساً لتجربة العمل في مجال الاستشارات.
  • مهارات التيسير ذات أهمية كبيرة؛ إذ يُطلَب من المستشارين قيادة فِرَق متنوعة أثناء ورش العمل التي تتناول قضايا معينة أو عمليات إدارة التغيير.
  • القدرة على التعلم المستمر؛إذ يشمل ذلك تجميع وتحليل كميات كبيرة من المعلومات بسرعة وفعالية، وترجمة الأفكار المعقدة إلى لغة بسيطة وسهلة الفهم، وإدارة الوقت باحتراف، والتواصل الواضح. كما يفضل أصحاب العمل العقلية التعاونية والمهنية، خاصة عند التعامل مع العملاء.

في ما يلي، بعض الخطوات المفيدة للأفراد الذين تخرجوا مؤخراً ويطمحون إلى العمل في هذا المجال:

  • إبراز خبرات العمل السابقة في مجال الاستشارات، وتقديم أمثلة الاستعداد للعمل بجد والقدرة على استثمار هذه التجارب كفرص تعليمية.
  • تحديد الاهتمامات الشخصية خارج نطاق العمل الرئيس أو مصدر الدخل، والعمل على استكشاف مجالات متعددة والالتزام بالتعلم المستمر عنها. يمكن تعزيز المعرفة والمصداقية من خلال تنفيذ مشاريع مستقلة "مجانية" تعزز المهارات.
  • تقديم الأفكار للعملاء المحتملين بدلاً من سؤالهم عن احتياجاتهم. يمكن للخريجين بناء مهاراتهم من خلال العمل في مشاريع مجانية أو تقديم خدمات بدون مقابل، بهدف تعزيز الخبرة. في حال تعذر ذلك، يمكن التفكير في كيفية تطبيق المهارات الحالية في مجالات ترتبط بالاستدامة، أو الحوكمة البيئية، والاجتماعية، والمؤسسية. على سبيل المثال، إذا كنت تعمل في مجال التسويق، تقديم خدمات تسويقية لمنظمات بيئية أو كتابة مقالات لشركات استشارية، مما يُسهم في التعرف على الموضوعات والأشخاص العاملين في المجال.
  • البحث في الموضوعات التي تثير الاهتمام الشخصي، وإعداد محتوى عنها، ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي والمدوَّنات، والمواقع الإلكترونية. يُنصح بمتابعة الخبراء والشركات ذات التأثير، التي يكثُر السعي للعمل معها.

في الختام

يتطلب الحصول على وظيفة كمستشار في مجال الاستدامة اكتساب المعرفة في مجال الاستدامة، ومهارات الاستشارات الإدارية، وأفضل الممارسات، بالإضافة إلى اكتساب خبرة عملية في تطبيق تلك المعرفة. يمكن أن يكون هذا المسار مهنياً شيقاً ومجزياً؛ إذ يساهم كل عام في مساعدة العشرات من الشركات والمنظمات غير الربحية في رحلاتها نحو تحقيق الاستدامة.

أحدث المقالات

ابق على اطلاع بآخر المستجدات

کن على اطلاع بآخر المقالات والمصادر والدورات القادمة