المستشارون الأكفاء

هم شخصیات الظل الذین يقفون وراء نجاح الإمبراطوريات العظمى
والمنظمات الاستثنائیة


المقدمة

تعد القدرة على إدارة التغيير اليوم هي من توفر التميز التنافسي وتكسب المرونة على التكيف الفعال مع العالم المكتظ بمتغيراته المتسارعة، وتتجلى تلك القدرة في أدوار المنظمة وهياكلها وإجراءاتها ومشاريعها وكفاءاتها القيادية، ولا يتحقق النجاح بشكل متسق وفعال إلا عند وجود استشاريين صادقين يمتلكون المعارف والمهارات والخبرات اللازمة لتوجيه الحكومات والمنظمات والأفراد؛ إذ يعرفون جميعاً ما يمكن أن يقوموا به ليكونوا في مصاف الدول الرائدة، والمنظمات الاستثنائية، والأفراد الناجحين.

إنَّ النتيجة النهائية تكمن في تبني الأفراد التغيير بسرعة وفاعلية أكبر، وجعل المنظمات قادرة على الاستجابة السريعة وفق متطلبات كل مرحلة، وتبني المبادرات الاستراتيجية، واعتماد حلول وأدوات وتقنيات جديدة بسرعة أكبر تساهم في رفع معدل الإنتاجية، علماً بأنَّ هذه القدرة لا تتوفر مصادفة؛ بل تتطلب نهجاً استراتيجياً يقوده استشاريون يعرفون تماماً من أين تؤكل الكتف.

وعلى مر التاريخ تعد مهنة المستشار من أكثر المهن حساسية في العالم، فإن صلح المستشارون صلحت الدول وحكوماتها ومنظماتها وأفرادها، وتذخر كتب التاريخ بعديد من القصص التي تتحدث عن مستشارين أنقذوا إمبراطوريات من السقوط وآخرين ساهموا في بنائها، وفي المقابل يوجد من المستشارين من كانوا سبباً في سقوط دول وتفككها وتدهور منظماتها وأفرادها وانعدام مواهبها، وعندما نمعن النظر في الدول المتقدمة نجد أنَّ واحداً من أسس تطورها هو تطور مهمة المستشار فيها، حتى أصبحت هناك مكاتب استشارات ومراكز دراسات يعمل فيها مستشارون على قدر المسؤولية، فمثلاً: دولة اليابان أغلب قراراتها السياسية والاقتصادية خصوصاً لا تصدر عن السياسيين؛ بل عن مراكز الدراسات المدعومة حكومياً؛ إذ يتبناها السياسيون والاقتصاديون فقط كدليل يسيرون على ضوئه. وكلما تمتعت الدول والحكومات والمنظمات والأفراد بوجود الاستشاريين الأكفاء فيما بينهم، تصبح القرارات أكثر حكمة، والنتائج أكثر ربحاً، ويقل الجهد المبذول مقارنة بالنتائج العظيمة والانتصارات الكاسحة، وهذا أمر مؤكد وثابت على مدار التاريخ.

item

التاريخ لا يذكر إلا المنتصرين!

إنَّ جميع الإمبراطوريات العظمى التي حققت انتصارات لا تضاهى، كان الداعم الأول لحكامها مستشارين من طراز فريد عينوا لصفاتهم المميزة من ذكاء وفطنة وحكمة، وكان على من عينهم الإنصات إليهم والسير وفق حكمتهم الفريدة، فكانوا العقل المحرك لبناء واستمرارية الإمبراطوريات العظمى.

item

ومن أبرز العظماء الذين نقشوا أسماءهم في كتب التاريخ جنكيز خان الذي أطلق عليه لقب: "الملك العالمي"، عندما استطاع في حقبة قصيرة من الزمن أن يصنع أقوى وأكبر الإنجازات على مر التاريخ، والتي لا يمكن وصفها سوى بالمعجزات، وأسس المغول بقيادته أعظم إمبراطورية في تاريخ العالم خلال وقت قليل جداً، وفي أواخر عهده كانت الإمبراطورية المغولية تمتد من المحيط الهادئ حتى بحر قزوين؛ أي أنَّها كانت تبلغ في حجمها ضعفي حجم الإمبراطورية الرومانية، ثم توسعت أكثر من هذا في العهود التي تلت سنوات حكمه. وكان وراء نجاحه مستشاره الأبرز ليو تشو تساي؛ وهو الفيلسوف والطبيب الذي كانت من أهم استشاراته التي قام بها هي إنقاذه لـ 10 ملايين صيني بذكاء شديد.


وكذلك الإسكندر الثالث المقدوني، والمعروف بأسماء عديدة أخرى أبرزها: "الإسكندر الأكبر، والإسكندر الكبير، والإسكندر المقدوني، والإسكندر ذو القرنين"؛ وهو من أسس إحدى أكبر وأعظم الإمبراطوريات التي عرفها العالم القديم، والتي امتدت من سواحل البحر الأيوني غرباً وصولاً إلى سلسلة جبال الهيمالايا شرقاً، وعلى الرغم من صغر سنه وقصر عمره، إلا أنَّه استطاع أن يحفر اسمه بين أكبر الملوك والأمراء الذين حكموا على مر التاريخ، ولا يخفى عن الكثيرين أنَّه يوجد ما يزيد عن 40 مدينة حملت اسم: "الإسكندرية" على مستوى العالم على الرغم من أنَّه مات عن عمر لا يتجاوز 32 عاماً وهذا لغز محير! وأبرز الذين كانوا خلف نجاحاته هو أرسطو الذي لازم الإسكندر صديقاً، ومعلماً، ومستشاراً؛ إذ تلقى الإسكندر على يديه مبادئ الطب، وتعلم الأخلاق والمنطق والدين والفن، وهذا ما جعله أحد أنجح القادة العسكريين في مسيرته؛ إذ لم يحصل أن هُزم في أية معركة خاضها على الإطلاق.


وأيضاً صلاح الدين الأيوبي القائد المؤسس للدولة الأيوبية، والبطل الذي أطلق عليه لقب: "الملك الناصر"، وبرزت مواهبه وقدراته على نحو أثار إعجاب الجميع، وتبوأ بإنجازاته العظيمة مكاناً بارزاً بين قادة العالم وصانعي التاريخ، فهو من قضى على مرحلة التراجع والهزائم، وأسس مرحلة الانتصارات والفتوحات، فتمكن من غزو الصليبين في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم، وهذا لم يحدث لأي قائد صليبي إطلاقاً. وهو من ألف رؤية القتلى إلا أنَّه كره رؤية الدماء، ووصف بالقائد الرحيم واللطيف والمتحضر في عصر الدموية، وكره الفظاظة والخشونة والقسوة، وتلك الصفات لفتت أنظار معاصريه من المسلمين والصليبين حتى قالوا عنه: "أعظم رجل على وجه الأرض"، وقالوا أيضاً: "من أعظم ملوك الدنيا"، فإنجازاته لم تكن عسكرية فحسب؛ بل كانت إنسانية في المقام الأول. وكان وراء شخصيته الإنسانية الفذة مستشاره اليهودي موسى بن ميمون، فهو من ساهم في بناء منظومته الفكرية في التسامح والتعايش مع الأديان.

item

وعلى مستوى المستشارين العظماء يوجد المستشار سون تزو؛ الجنرال الصيني والخبير العسكري والفيلسوف، وهو الذي ذاع صيته بسبب العبقرية العسكرية التي اشتهر بها، وكتب مجموعة من المقالات العسكرية الاستراتيجية حملت اسم كتاب: (فن الحرب). شهد سون تحول المجتمع الصيني من مجتمع العبيد إلى المجتمع الإقطاعي؛ إذ كثرت الحروب بين أكثر من 130 مملكة صغيرة؛ مما أدى في النهاية إلى ظهور خمس ممالك قوية تنازعت فيما بينها على السلطة والحكم، هذه الحروب الطويلة لم تكن بمعزل عن سون تزو؛ إذ زادت من خبرته العسكرية وعمدت إلى صقل مواهبه وزادت من حكمته المتناهية، وكل هذا جعل الملك آنذاك يعين سون تزو قائداً عاماً لجيش مملكة تشي ومستشاراً له، والذي عمد بعدها إلى تدريب الجنود وصقل مهاراتهم وتوسيع أطراف المملكة، وساعد على تحقيق الانتصارات الكاسحة انتصاراً تلو الآخر. وساهمت حكمته البالغة في التأثير في هتلر، وجنكيز خان، والعديد من قادة العالم الذين عدوا حكم سون تزو دليلاً يسيرون في ضوئه.

item

والعصر الحاضر لم يخل من شخصيات الظل التي كانت خلف أبرز الناجحين في عالمنا اليوم، فمثلاً: ستيف جوبز مؤسس شركة آبل، كان خلف نجاحه الأول رونالد واين الذي اتفق معه على صياغة اتفاق شراكة تأسيس شركة آبل، ثم بعد تدخله لفض الخلاف بين جوبز وزنياك طلبا منه أن يكون شريكاً في الشركة بنسبة 10%.
وكذلك الأمرراي كروك مؤسس سلسلة مطاعم ماكدونالدز الشهيرة، فهو لم يحصل على أرباح حقيقية إلا بعد أن التقى بـ "هاري سونيبورن"، وهو العبقري في مجال المال والأعمال، والذي دمج فكرة العقارات مع منح الفرنشايز، وبعدها وصلت أرباح الشركة إلى أرقام قياسية لا تخطر في البال.
وعن إمبراطورية جنرال إلكتريك، والتي تعد من أركان الصناعة الأمريكية، فعندما كانت شركة تحمل قيمة سوقية تعادل 12 مليار دولار، قدم إليها المستشار جاك ويلش الذي أطلق عليه لقب: "مدير القرن" و"أسطورة إدارة الأعمال" لجهوده الضخمة في بناء إمبراطورية جنرال إلكتريك عندما ساهم في رفع قيمتها السوقية إلى أن وصلت إلى 410 مليار دولار قبل مغادرته لها.

وعند إمعان النظر في كل القصص أعلاه نجد أنَّ الإمبراطوريات العظمى والمنظمات الاستثنائية والأفراد الذين نقشوا أسماءهم على صفحات التاريخ، كان خلفهم شخصيات الظل "المستشارين الأكفاء"، والذين تمثل دورهم في دور الحكيم الذي يقدم الحكمة لكل من يطلبها بمنهجيات وأدوات وحلول تختصر الزمن وتضاعف النجاحات على نحو غير مسبوق.

أحدث المقالات

ابق على اطلاع بآخر المستجدات

کن على اطلاع بآخر المقالات والمصادر والدورات القادمة