مستقبل الشركات الاستشارية في عصر الذكاء الاصطناعي

يواجه سوق العمل اليوم تغيراتٍ جذرية، وخصيصاً في القطاع الاستشاري؛ إذ يطرح الذكاء الاصطناعي تحديداً تحديات جديدة، مثل المخاوف المالية الداخلية والتهديدات الوجودية الكبرى، وتتنوع وتتعقد التحديات في الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) خصيصاً، ومستقبل شركات اليوم مرهون بالطريقة التي تواجه بها هذه الشركات التحديات المتغيرة باستمرار، كما أنَّ النهج الذي تتَّبعه اليوم يعيد تعريف دورها المتوسع تعريفاً متزايداً في سوق العمل الذي يتطور إلى ما هو أبعد من النماذج التقليدية.

تشهد الشركات الاستشارية الكبرى تحولاً أشبه بصراع الأجيال؛ إذ تضغط الأخطاء الاستراتيجية والتحديات التشغيلية على الموارد المالية وتهدد استقرار المنظمات، وكان هناك سوء تقدير أساسي للطلب، مما فرض على الشركات تكيفاً أسرع مما ترغب لبقائها واستمراريتها.

تزداد حدة الانتقادات الموجهة للكفاءات الأساسية في الشركات الرائدة ضمن القطاع، مثل "ماكينزي" (McKinsey)، وثمة مخاوف من افتقار المستشارين إلى الخبرة اللازمة لمواجهة الأسواق المتقلبة اليوم، وتطبيق نهج عمل يركز على النتائج المرجوة، مما أثار بعض الشكوك بشأن قيمة عروضهم.

تواجه أيضاً نماذج الاستشارات التقليدية تحديات مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي (GPT-4)؛ إذ توفر هذه التقنيات خدمات تحليل وتخطيط استراتيجي سريعة، وفعالة، ومنخفضة التكلفة، مما يثير التساؤل حول ضرورة وجود الشركات الاستشارية في المستقبل.

يواجه النموذج الاستشاري التقليدي المعتمد تهديداً وجودياً خطيراً يتمثل في تطور الهيكل المؤسسي والتوجه لأنظمة العمل المرنة والموزعة، فيتراجع الاعتماد على الشركات الاستشارية الكبرى في التحقق من صحة القرارات؛ لأنَّ المؤسسات تفضل الحصول على توجيهات مباشرة وقابلة للمساءلة من شركات متخصصة صغيرة.

استثمار شركات الاستشارات في الذكاء الاصطناعي

تعني التغييرات المفاجئة والضخمة أيضاً فرصاً جديدة، ونقصد هنا استشارات الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI Consulting)، ويناقش الكاتب الاقتصادي "برنارد مار" (Bernard Marr) استثمار شركة "أكسنتشر" الاستشارية (Accenture) بقيمة 3 مليارات دولار في الذكاء الاصطناعي التوليدي، مشيراً إلى أدائها المالي القوي وإمكانات الربحية في هذا القطاع، وتُعَد "أكسنتشر" المعيار في قطاع الاستشارات حتى اليوم مع تجاوز الإيرادات 600 مليون دولار في ربع واحد وإيرادات سنوية متوقعة تصل إلى 2.4 مليار دولار.

سارعت الشركات الاستشارية الأخرى، مثل "إي-واي" (EY) و"كي-بي-إم-جي"(KPMG) إلى اللحاق بالركب، وإنشاء مجالات متخصصة في استشارات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتركز "إي-واي" على استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي بوصفه مسرِّعاً تحويلياً، بينما تدعم "كي-بي-إم-جي" العملاء من خلال تحديد أولويات حالات الاستخدام وتأسيس سياسات الحوكمة.

تقدم الشركات المتخصصة، مثل "كوانتيفي" (Quantiphi) خدمات استشارية شاملة في الذكاء الاصطناعي التوليدي، مما يزيد فرص كلٍّ من الشركات التقليدية الكبيرة والشركات الصغيرة الجديدة، وتبرز هنا أهمية الذكاء الاصطناعي التوليدي في اتخاذ القرارات الاستراتيجية، والكفاءة التشغيلية، والنتائج المستندة إلى البيانات.

استثمار شركات الاستشارات في الذكاء الاصطناعي

تحديات التحيز في الذكاء الاصطناعي التوليدي للمستشارين

تؤثر التحديات المستقبلية المجهولة وغير القابلة للتنبؤ في القطاع في الاعتماد السريع للذكاء الاصطناعي التوليدي داخل قطاع الاستشارات، وأبرز هذه التحديات هو الخوف من تحيُّز الخوارزميات (Algorithmic Bias)، الذي يشكل معضلة في المعايير الأخلاقية؛ لأنَّ التحيز في الذكاء الاصطناعي التوليدي يفرض مجموعة من المخاطر التي تؤدي إلى عواقب وخيمة على الأفراد والمجتمع.

إذ يعد ترسيخ الصور النمطية السلبية أحد هذه المخاطر الرئيسة، بمعنى أنَّ نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، تتعلم وتُنتِج الصور النمطية السلبية في مخرجاتها، وترسخ هذه الأنماط مع كل تكرار عند تدريبها على مجموعات بيانات ضخمة تحتوي على هذه التحيزات، فقد يؤثر هذا في مجالات متنوعة، بدءاً من وسائل الإعلام والإعلانات وصولاً إلى عمليات اتخاذ القرار التنظيمية.

تفرض احتمالات التمييز وعدم المساواة تحديات إضافية في هذا المجال، ويمكن أن يؤدي التحيز في الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى نتائج تفرِّق بين الناس، كما لوحِظ في بعض أنظمة التعرف إلى الوجه التي تظهر معدلات خطأ أعلى مع الأشخاص ذوي البشرة الداكنة، بالتالي تؤثر النتائج المتحيزة في قرارات التوظيف، والموارد التعليمية، أو النصائح القانونية في تطبيقات أخرى، مثل توليد المحتوى الآلي، وينتج عن ذلك عدم المساواة بين المجموعات المختلفة.

يقدِّم الذكاء الاصطناعي التوليدي أيضاً معلومات خاطئة، ويحرِّف الحقائق، وينشر التحيزات، مما يؤدي ذلك إلى تضليل الجمهور، وتزييف الواقع، بالتالي تضعف الثقة في التكنولوجيا، إذا أدرك المستخدمون وجود التحيز في الذكاء الاصطناعي، مما يقلل رغبة أو قدرة المنظمات على اعتماد هذه التقنيات والأنظمة التي يُحتمَل أن تكون متحيزة.

المخاطر الأخلاقية والقانونية أيضاً كبيرة؛ إذ يترافق الذكاء الاصطناعي التوليدي المتحيز مع مخاوف أخلاقية وقانونية؛ لأنَّه يُعرِّض المنظمات إلى دعاوى قضائية، أو عقوبات تنظيمية، أو يضر بسمعتها إذا أدت أنظمتها إلى ممارسات تمييزية، وهذا بدوره يمكن أن يؤثر في المجموعات المهمشة، ويعزز التحيزات القائمة ويحد فرص الحصول على الوظائف، ويحسن الوضع الاجتماعي، ويوصل إلى الموارد.

تتطلب مواجهة هذه التحديات نهجاً متعدد الأبعاد، ويجب على المطورين والمنظمات التركيز على العدالة والشمولية في أنظمة الذكاء الاصطناعي من خلال ضمان وجود بيانات تدريب متنوعة تمثل أطياف متعددة، وإجراء اختبارات تحيز، وإشراك أصحاب مصلحة متنوعين في تطوير الذكاء الاصطناعي، وتعزيز الشفافية وقابلية التفسير في ممارسات الذكاء الاصطناعي، ويمكن استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي بمسؤولية لإفادة المجتمع دون تعزيز التمييز أو الضرر من خلال مواجهة التحيز مباشرة.

معالجة ومنع مخاطر أمان البيانات

يعرِّض النمو السريع للذكاء الاصطناعي التوليدي أمان البيانات للخطر؛ لأنَّ شركات الاستشارات تستخدم كميات هائلة من البيانات الحساسة لتدريب ونشر نماذج الذكاء الاصطناعي، مما يجعلها أهدافاً سهلة للاختراق من خلال الثغرات في عمليات التخزين، والنقل، والمعالجة، وتحتاج شركات الاستشارات إلى استراتيجية شاملة تركز على تدابير الأمن السيبراني الدقيقة والامتثال للوائح لمعالجة هذه المخاطر.

يُعَد التشفير القوي للبيانات (Data Encryption) أمراً ضرورياً، ويجب على شركات الاستشارات التأكد أنَّ جميع البيانات (في النقل أو التخزين) مشفرة ومحمية باستخدام طرائق معتمدة للحد من الوصول غير المصرح به واختراق البيانات، وتعد ضوابط الوصول الصارمة ضرورية أيضاً بالإضافة إلى هذا التشفير، ويجب على الشركات التأكد أنَّ الأشخاص المخوَّلين فقط هم من يمكنهم الوصول إلى البيانات الحساسة، ويجب عليهم تثبيت وتنفيذ نظام المصادقة متعددة العوامل، والتحكم في الوصول بناءً على الدور، وإجراء تدقيقات منتظمة إلزامية.

 معالجة ومنع مخاطر أمان البيانات

جمع البيانات بناءً على سياسة حوكمة البيانات

يجب أن تُحدد سياسات حوكمة البيانات آلية جمع البيانات، وتخزينها، واستخدامها، ومشاركتها، كما ينبغي أن تتوافق هذه السياسات مع قوانين حماية البيانات، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) وقانون حماية خصوصية المستهلك (CCPA)، بالتالي تدريب الموظفين على أفضل ممارسات أمان البيانات، مثل تمييز هجمات التصيد الاحتيالي واستخدام كلمات مرور آمنة.

يجب على كل شركة إنشاء خطط استجابة للحوادث وتحديثها باستمرار من أجل إدارة انتهاكات أمان البيانات أو الهجمات السيبرانية، ويجب أن تتضمن هذه الخطط خطوات الاحتواء، والتحقيق، والتواصل، والتجاوز، وينبغي استكشاف فرص التعاون مع خبراء الأمن السيبراني الخارجيين؛ إذ يمكن أن يقدموا رؤية جديدة تضمن اعتماد تدابير أمان عملية ومحدثة وسط التحديات الكبيرة التي فرضتها التكنولوجيا.

في الختام

يوجد وعي متزايد بأهمية الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي التوليدي في قطاع الاستشارات على الرغم من التحديات التي ترافقه، وتستفيد شركات الاستشارات من الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي التوليدي وتلتزم بالمبادئ الأخلاقية وتضمن أمان وسلامة عملياتها من خلال الاعتراف بهذه التحديات ومعالجتها مباشرة، ويجب على الشركات امتلاك القدرة على التكيف، والابتكار، والالتزام بالممارسات المسؤولة لمواجهة التغييرات الجذرية وعدم اليقين الذي يسود العالم اليوم.

يوجد إمكانيات هائلة لتوليد الإيرادات والحصول على مزايا استراتيجية عظيمة وسط كل هذه التغييرات، فقد يكون هذا بداية عصر جديد من الاستشارات في مجال الذكاء الاصطناعي.

أحدث المقالات

ابق على اطلاع بآخر المستجدات

کن على اطلاع بآخر المقالات والمصادر والدورات القادمة